قراءة| الحل والعقد .. بين العبثية والمال الأسود

كتبه المهندس خالد بدوان السماعنة


ذكر الله تعالى في قصة ملكة اليمن بلقيس حوارا دار بينها وبين مستشاريها وقادة جنودها حين جاءها كتاب سليمان عليه السلام: ( يا أيّها الملأ أفتوني في أمري ماكنت قاطعة أمراً حتى تشهدون). 

هذا السؤال ضمن هذا الحوار فيه إشارة بوجود شيء لدى هذه الملكة أشبه بمجلس الشورى. ومما يزيد الأمر جلاء قول الإمام القرطبي في تفسيره للآية: الملأ أشراف القوم.

هذا المشهد يتكرر في القرآن الكريم حين يذكر الله تعالى حوارا مشابها ولكن هذه المرة على لسان فرعون: (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربّه).
فعلى الرغم من جبروت فرعون وسلطته المطلقة إلا أنه عاد فاستشار ضمنياً أهل الرأي من حوله، وهو ماذكره الإمام البغوي في تفسيره، لأن ثمة من كان بين قوم فرعون من يخوفه قتل موسى.

والسؤال الملح هنا: من هم هؤلاء المستشارون الذين يصطفيهم الملك لمشورته؟ وماهي صفاتهم؟ ليبرز أمامنا مصطلح "أهل الحل والعقد"!.

وهو مصطلح يظهر عند الحديث عن البيئة السياسية، ويستعمله كثير ممن كتب أو يكتب في القضايا السياسية التي قد تصل إلى حد إقرار واختيار حاكم جديد بعد الذي رحل.

لكن الحق والحق أقول: إن هذا المصطلح من جهة البناء اللفظي لم أجده لا في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة، لكن معناه وبعض مبناه ظهر لي في كلام وكتابات بعض العلماء المسلمين المتقدمين كأبي الحسن الأشعري، ومن بعده الباقلاّني، ثم تلقّفه أبو يعلى الفرّاء والماوردي. وكما قلت فإن هذه العبارة حين استخدمها هؤلاء العلماء لم يستخدموها كمصطلح منفصل، خاصة عند أبي الحسن الأشعري، لكن نجد أن الإمام الباقلاني كان استخدامه لهذا المصطلح مع الوقت أكثر ترسّخا حتى بدا كعبارة دالة، وسبب تكرار الباقلاني لاستخدامه التفصيل المستفيض الذي لجأ إليه الباقلاني في مسألة اختيار الحاكم.

إن البنية اللغوية لهذا المصطلح يزيح الستار عن مراد مستخدميه ويكشف طريقة التفكير التي دفعتهم لاختيار هذا المصطلح بعينه، بل ويعكس شيئا من نظرتهم لهذا العالم. فحين مراجعة عبارات الأشعري والباقلاني في هذا الباب نجد أن مصطلح " أهل الحل والعقد" استخدم على سبيل الرد على الشيعة الذين يقولون بوجوب النص في اختيار الحاكم! فلم يكن استخدامهم لهذا المصطلح للدلالة على آلية سياسية واضحة المعالم. لكن بعد ذلك تجد أن الاستخدام بدأت تتضح معالمه كما عند الماوردي والفراء وغيرهما. ليصبح بعد ذلك شائعا لدى الفقهاء، وعلماء أصول الفقه، واهل الكلام والسياسة في محاولات منهم للموائمة بين مجريات سياسية حدثت في عصرهم من جهة وبين التصور الشرعي! مع عدم تجاهل السوابق التاريخية التي لا يمكن تغافلها كآلية اختيار أبي بكر وعمر وبقية الخلفاء الراشدين. مع التأكيد على أن استخدام عبارة كهذه العبارة في حق مجتمع الصحابة ومن بعدهم من كبار التابعين كان سيعد مسألة "طبيعية" تنسجم مع واقع اجتماعي قائم بالفعل.

وعند الرجوع إلى المعجم الفقهي تبرز لنا ثلاثة مفاهيم لهذا المصطلح:

- أولها: أنهم قادة المجتمع وأعيانه وذوو الرأي في شؤونه العامة.

- ثانيها: وهو عند الفقهاء والمتكلّمين هم نوّاب الأمّة أو أي مجتمع أو قطر مسلم، وهم الذين ينوبون عن الكافة في اختيار خليفة أو حاكم، أو في خلعه. ويشترط فيهم الخبرة بما يقومون به، دون بلوغ مرتبة الاجتهاد الفقهي.

- وآخرها: أنهم الفقهاء وأهل الأصول والمجتهدون القادرون على استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، والذين باتفاقهم على حكم شرعي ينعقد (الإجماع)، وصفاتهم مبيّنة في علم (أصول الفقه).

متى تأملنا هذه الإطلاقات أو المفاهيم سنجد أن الإطلاق الأول إطلاق عام يحتاج إلى تفسير لإزالة الإبهام عنه، فمن هم قادة المجتمع؟ ومن هم أعيانه؟ ومن هم أهل الرأي في شؤونه؟.

في حين أن الإطلاق الثاني والثالث هما في حقيقة الأمر جاءا ليخصصا اللفظ العام (الإطلاق الأول) وهو أنهم: "أهل العلم"، و"أهل السلطة الاجتماعية".

ولعل قائلا يقول: هذان معنيان يسيران في اتجاهين مختلفين تماما. والحق أقول: أني لا أجد أن في إحداث نوع من الوحدة المفاهيمية بين الاتجاهين أمرا عسيرا !. ذلكم أن مفهوم الحل والعقد يدور على أمراء وعلماء و وجهاء .. أو بشكل أعمق هم العلماء وأهل السلطة الاجتماعية.

وقد يحاول البعض التشكيك في هذا المنحى بحجة أن أهل العلم لا شوكة لهم وبالتالي فذكرهم هنا إنما هو على سبيل ذر الرماد في العيون وعلى سبيل إضفاء طابع شرعي على أي قرار سيتم اتخاذه. وهذا كلام قد يروق أصحاب الاتجاهات الثورية العاطفية. ومن قال أن العالم الشرعي ليس له شوكة؟ فإن لم تكن شوكته قبيلته كانوا أتباعه الذين يأتمرون بفتواه. ولا يمكن القياس على علماء باعوا دينهم بثمن بخس دراهم معدودات! فهؤلاء لا قيمة لهم مرجوة ووجودهم كعدمه.
وقد يروق البعض أن يفرق بين عبارة أهل الشورى وعبارة أهل الحل والعقد ! .. مع أني في قرارة نفسي لا أجد تعارضا بين المصطلحين إذا ما قلنا: إن من يجتمعون لبيعة الحاكم عقب رحيل سالفه هم من يتقوى بهم هذا الحاكم نفسه على تثبيت حكمه. فلا بد أن يكونوا أهل شوكة، وهذا الحاكم متى ثبتت بيعته احتاج من يشاورهم في شؤون الدولة فهم من أهل مشورته ولا بد.
إن أهل الحل والعقد أهل شوكة ولا ريب .. وإلا فلا قيمة لحلهم ولا لعقدهم .. فهؤلاء قوم لا يستتب الأمر في الدولة إلا بهم مجتمعين وبطاعتهم لولي أمرهم، فإن مقصد الحكم هو القدرة والسلطان، ولذا بين ابن تيمية رحمه الله أن كل من بويع فكانت له القدرة والسلطان بات إماما للناس. ولا يمكن أن يستتب الأمر بموافقة واحد أو اثنين من أهل الشوكة بل لا بد أن يجتمعوا على ذلك.
لقد ابتليت الأمة ببعض الحمقى الذين لايفقهون حقيقة هذه التوازنات وأصولها الشرعية المرعية، حتى أنهم اعتبروها توازنات سياسية لا علاقة لها بالدين! وقد خابوا وخسروا حين جهلوا. ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
وهناك آخرون يرون أن المجالس البرلمانية طريق لإفراز أهل الحل والعقد في الدولة؛ لكنهم في الوقت نفسه يشترطون أن تكون عملية فرز المرشحين واضحة المعالم كي لا تفرز إلا من تتوافر فيهم صفات أهل الحل والعقد. ومابين الواقع والخيال ترى مفاهيما تائهة مضطربة تحاول أن تجد لها مكانا بين مكوّنات الواقع السياسي الذي تعاصره، و ليس مفهوما منهجيا يؤسّس لموقف سياسي متماسك.
نحن اليوم أمام عبثية في مفهوم أهل الحل والعقد، بل قد يكون الرجل منهم يظن نفسه من أهل الحل والعقد، وأنه ممن يجب أن يستشار في الأمور العظام، وهو عديم الشوكة في بيته وبين أهله وأبنائه. بل قد يعمد البعض لصناعة شوكة له بالحيل والألاعيب القذرة والمال الأسود وشراء الذمم التي يريد من خلالها فرض وجود له على ساحة أهل الحل والعقد. ولا يكاد ينقضي عجبي من أمة ترى أراذلها قد اعتلوا منابرها ويقررون عنهم في أمورهم العظام وهم مع ذلك مطبلبن لهم ومزمرين.
إن مما يعزينا أنه وحتى وإن توشح أمثال هؤلاء بهذا الاسم -زورا وبهتانا- فهم لن يكونوا إلا دمى في يد من هم أهل الشوكة الفعليون وإن لم يكونوا ظاهرين للعيان باسمهم ورسمهم.

للأسف فإن المردود السلبي لهذه العبثية لن يكون على هؤلاء وحدهم بل سيطال أمة بأكملها. وها نحن ننتظر الساعة لأن الأمر لا زال يوسد إلى غير أهله.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة| فكر أسود عابر للقرون .. "القرامطة" يضربون من جديد ..

قراءة | الخاصرة الرخوة في حكومة دولة بشر الخصاونة ..

حين لا تبقى فائدة من البقاء .. بادر بالرحيل .. فأرض الله واسعة