قراءة | موافقات الشاطبي واليقظة المقاصدية في زمن الطوفان ..

 قراءة | موافقات الشاطبي واليقظة المقاصدية في زمن الطوفان .. 


كتبه المهندس خالد بدوان السماعنة


لا زلت أتذكر كلمات خطتها أنامل ابن مدينة القلمون الشيخ محمد رشيد رضا - رحمه الله - يجسد فيها واقع الكتب العربية المعاصرة، وأن أكثرها - للأسف- مابين "منسوخ و ممسوخ"، وأن ما يحسن أن يقال فيه أنه نابع من صدر مؤلفيها وعقولهم لا يتجاوز النزر اليسير ! .. وكان قد ذكر مثالا على ذلك النزر: كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، ومقدمة ابن خلدون، وكتابي الموافقات والاعتصام للعلامة الشاطبي ( أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي/ المتوفى ٧٩٠ هـ) رحمه الله.

هذه الكلمات قبل قرابة عشرين عاما أو تزيد قادتني - يومها - إلى مزيد قراءة في كتاب "الموافقات" وما كتب فيه وحوله، فوجدت أن كلمات "الشيخ رضا" وإن حثتني على قراءته؛ لكنها لم تفي الكتاب حقه، ولم تشر إلا إلى نزر يسير جدا مما في هذا الكتاب من درر كامنات.

ومن المثير للعجب أنه وفي زمن سابق ليس بالبعيد جدا عنا .. في زمن الدولة العثمانية بالتحديد .. وحين اضطر أهل الحل والعقد فيها لوضع الأسس الضابطة لإصلاح الدولة، والقواعد العامة للإصلاح السياسي والاجتماعي ولم يجدوا - حينها - في " المصالح المرسلة" غايتهم المنشودة، رأيتهم يقصدون كتاب الإمام الشاطبي " الموافقات" واجتهاداته فيه حول مقاصد الشريعة.

ولقد كان لي عند كتابي الإمام الشاطبي جلسات طويلات اقتضتها طبيعة الرحلة والمرحلة ..

 الأول: كتاب "الموافقات" في بيان مقاصد الكتاب والسنة، والحكم والمصالح الكلية الكامنة تحت آحاد الأدلة ومفردات التشريع، والتعريف بأسرار التكاليف في الشريعة الإسلامية.

والثاني: كتاب "الاعتصام" الذي يقول فيه«ثم إني أخذت في ذلك مع بعض الأخوان الذين أحللتهم من قلبي محل السويداء، وقاموا لي في عامة أدواء نفسي مقام الدواء، فرأوا أنه من العمل الذي لا شبهة في طلب الشرع نشره، ولا إشكال في أنه بحسب الوقت من أوجب الواجبات، فاستخرت الله تعالى في وضع كتاب يشتمل على بيان البدع وأحكامها وما يتعلق بها من المسائل أصولاً وفروعاً وسميته بـ الإعتصام». 

فكان هذا الوصف منه رحمه الله شافيا وافيا لبدائع الفوائد فيه.

وقد يسأل سائل عن سبب هذا الإطراء على كتاب " الموافقات" ؟!

لعل من أهم أسباب الشيوع والذيوع لهذا الكتاب هو طبيعة موضوعه، فهو من الكتب التي اختصت في [مقاصد الشريعة].. وضع ألف خط تحت هذه الجملة !!.. التي هي روح الشريعة ولا ريب .. والتي هي غاياتها التي جاءت لتحقيق مصالح الناس في دينهم ودنياهم.

فالكتاب ثمرة عملية استقراء واسعة، ولمؤلفه فيه جهد رائع من جهة الترتيب البعيدة كل البعد عن التعقيد الذي تشتهر به عامة كتب أصول الفقه.

ومن الجدير بالذكر هنا أن علم مقاصد الشريعة ليس بالعلم الذي يؤخذ من كتاب في فصل أو فصلين دراسيين، أو حتى خلال مرحلة دراسة البكالوريوس!!.

فأنت ترى بعض من تخرج من الجامعات يرفع عقيرته كأنه شاطبي زمانه، وكما يقول الإمام العز بن عبدالسلام رحمه الله: معرفة نفس ( وجمعها أنفاس ) الشارع لا بد لطالب العلم فيه من كثرة الاستقراء. 

وهيهات هيهات أن يقبل ذلك من مدعيه لمجرد أنه أنهى دراسته الجامعية، فالاستقراء يعني القراءة المستفيضة الواعية لنصوص الكتاب والسنة بأنواعها، والآثار الثابتة عن الصحابة والتابعين. 

ناهيك عن حسن الاستقراء الذي يتطلب العلم بقواعد العربية وبيانها وفقهها، حتى يصبح هذا المستقريء على قدر كبير من حسن الفهم لمرادات الشريعة ونصوصها.

وإن نسيت فلن أنسى ضرورة طول الباع في النظر والتأمل في كتب المتقدمين من الأئمة سواء كتب الفروع أو الأصول والمقاصد، كأجوبة مالك وأحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم، وفهم طريقتهم وفهم أصول ما كتبوه في الفقه، وطريقتهم في الاستدلال،  لتفهم طريقة كل إمام منهم في ترتيب الأحكام الشرعية على الأدلة.

تكاد تكون الركيزة الأساسية التي بني عليها الفكر الإصلاحي لدى الإمام الشاطبي هي في كون الحقيقة لا تتعدد، ولن تكون إلاّ واحدة. 

وعليه رتب رحمه الله مظاهر الفساد في الحياة الإجتماعية، والسياسة، والخلقية على الفساد في العقيدة !! هذا الفساد الذي مصدره الأهواء، والبدع،والعصبيات.

لذا تجد أن هذا الإمام في كتابه يناقش الحل في ضرورة النظر في حياة جيل الأوائل - إن صح التعبير -، بدءا من جيل المدينة النبوية تحت قيادة نبوية مصطفوية، ثم جيل الخلفاء الراشدين الأربعة، وهكذا...

وتجده - كما فهمت - لا يتابع أي عمل قاموا به، وإنما يركز على ما داوموا عليه!.

إن الملفت للنظر أن الشاطبي ألف كتابه ذاك في العصر الاندلسي وفي القرن الثامن الهجري تحديدا .. ولم يلق هذا الكتاب ترحيبا من معاصريه، بل على العكس تماما فقد لاقى معارضة شديدة .. ولعل العجب يزول إذا عرفنا أن المجتمع الأندلسي يومها كان مالكيا حتى النخاع، ولا يقبل عن مذهب المالكية حيدة أبدآ، والشاطبي أراد كشف أسرار الشريعة من خلال التوفيق بين مذهب المالكية والأحناف. فكان صدامه مباشراً مع التقليد الأعمى والعصبية المقيتة.

لقد كان الإمام الشاطبي صاحب نظرية - إن صح التعبير ثانية- مفادها: "الشرع الإسلامي نظام شامل لإصلاح الناس"،ولذا فقد استطرد في إثباتها من خلال علم المقاصد في كتابه، فأفرد لذلك ٤٩ فصلاً، و ٦٢ مسألة ليؤكد ويقرر من خلال ذلك على نظريته.

إن أمن المجتمع من أعظم مقاصد الشريعة .. ولولا الحكام لكان الناس فوضى ضائعين .. والحكام هم ولاة الناس لحراسة دينهم وسياستهم به .. وقد أشار إلى ذلك الإمام الطاهر ابن عاشور وأكد -رحمه الله- على أن المقصد العام من الشريعة: حفظ نظام الناس، ولا يمكن تحقيق الاستدامة في ذلك مالم يتم ضمان صلاح المهيمن على هذا النظام وهو: الفرد.

هذا بخلاف فهم أولئك الذين أصيبوا في فقههم في مقتل من أهل التطرف الديني بشتى أنواعهم ممن زعزعوا استقرار البلاد وأمن العباد بالفعل تارة وبأقوالهم تارات أخرى، مجسدين بذلك مثالا حيا للجهل المركب، فأخذوا جزءا وتركوا الكل !.

فكانوا أهل استدلال ناقص، فلم يراعوا في الأدلة توابعها وعوارضها التي تؤثر ولا ريب في تنزيل الحكم على آحاد الحوادث، فلا هم ظفروا بحكم صحيح، ولا وصلوا للحق الرشيد.

وأبدع الإمام الشاطبي حين قال في أشباه هؤلاء: [ فكثيرا ما نرى جهالا يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة، وبأدلة صحيحة، اقتصارا بالنظر على دليل ما، واطراحا للنظر في غيره من الأدلة الأصولية والفرعية العاضدة لنظره أو المعارضة له، وكثير ممن يدعي العلم يتخذ هذا الطريق مسلكا ].

هل سيفقه جيل الذكاء الاصطناعي ضرورة الارتكاز في فحص واقع الأمة إلى هذا النوع من الفقه ( فقه أسرار الشريعة ومقاصدها )؟.

وهل سيعي هذا الجيل أن الحل والمعالجة لأزمات الدول اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا لن يكون من خلال القراءة الحرفية الضيقة لنصوص الكتاب والسنة، بل من خلال الانطلاق صوب الأدلة الكلية وتحرير مقاصد الشريعة فيها؟!.

في زمن الطوفان وتزاحم المصالح في الباب الواحد نحن في أمس الحاجة إلى إعادة الاهتمام بهذا النوع من العلم الشريف، فكان لزاما علي أن ألفت النظر إليه تأدية للأمانة، وإبراء للذمة، والله من وراء القصد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة| فكر أسود عابر للقرون .. "القرامطة" يضربون من جديد ..

شكرا أبا هيثم .. شكرا محمد الوكيل ،،

قراءة | الخاصرة الرخوة في حكومة دولة بشر الخصاونة ..