قراءة| مفهوم جديد للرعاية الصحية يفرز استراتيجية مشتركة في التسويق. أين وزارة الصحة منها؟
لا أعتقد أن أحدا بعد كل هذا الذي تم كتابته سيجادل في أن وجود إستراتيجية للمنظمة -أيا كان مجال عملها -سيكون سببا مهما في تحميل كل من يشارك فيها المسؤولية. وأن هذا يعني التزامًا متزايدًا من فريق العمل، و ستتم إجراءات العمل بشكل أسرع. بل وعلاوة على ذلك -ووفقًا لقانون باركنسون- وكون العمل يتوسع لكي يملأ كل الوقت المتاح لإنجازه، فإن أي فريق سيتم تكليفه بمهمة سيقوم بملء أي وقت مخصص لإكماله.
النتيجة لن تكون تسريع كفاءة المنظمة التشغيلية فقط، بل سيؤدي –أيضًا- إلى زيادة إنتاجية العمل، وتحسين النتائج وخاصة في قطاع الرعاية الصحية، وهذا بدوره سيؤدي إلى تسريع معدل نمو عمل القطاع الطبي، مما يعني – في المنظمات الربحية- دورة ربح أسرع.
المحصلة النهائية هي: أن وجود رؤية استراتيجية مشتركة نتيجتها إيجاد مكان عمل متماسك لعملك الطبي هو من أكبر التحديات في القطاع الصحي -، والنتيجة الحتمية لسير العمل بلا هدف هو هدر الموارد، والسلامة والجودة ورضا المرضى والأفراد والتمويل كلها مجالات مهمة يجب مراعاتها لتحديد مسار التميز مع مراعاة التغييرات المحتملة التي قد تحدث في السنوات المقبلة.
نحن أمام تغير شامل في مفهوم تقديم الرعاية الصحية، فمنذ ظهور ما يعرف بقانون الرعاية الميسرة (ACA) في الولايات المتحدة عام 2010 أو ما يعرف باسم (أوباما كير) -والذي يهدف إلى توسيع الوصول إلى التأمين الصحي لملايين الأمريكيين غير المؤمن عليهم- بات قطاع الرعاية الصحية وجها لوجه مع مفهوم جديد للرعاية الصحية والتحول من الرسوم مقابل الخدمة إلى الرسوم مقابل القيمة، وأصبحت الرعاية الصحية الأولية تميل إلى كونها سلعة وبشكل متزايد.
بتنا نرى اليوم شركات تقدم خدماتهامباشرة للمستهلكين ويمكن طلبها عبر الإنترنت وتنفيذها من مكان واحد ولو كان بعيدا، وأصبح بإمكانك التواصل مع الأطباء لتقديم خدمات التشخيص والفحص والمعاينة الطبية وأنت في منزلك عبر مايعرف بتقنية Telemedicine، ويتم تزويدك بالوصفات الطبية بتسليمها مباشرة إلى عنوان منزلك.
إن مما زاد المسألة تعقيدا أن شركات التأمين تشجع وتعزز هذا الاتجاه، وبالمقابل فقد شكل ذلك أمرا محبطا لهمم الممارسين الفرديين ورجال الأعمال المستثمرين في القطاع الطبي.
وحتى شركات الأدوية لم تسلم من آثار تحولات البيئة الخارجية والمنافسة الشرسة من قبل من يقومون بإغراق السوق بالأدوية لنظرائها من العلامات التجارية بمجرد انتهاء صلاحية براءة الاختراع. مما جعل التميز حاجة ملحة في القطاع الصحي بشكل عام.
لقد بات العالم اليوم في سباق عجيب في سوق التنافس في مجال الرعاية الصحية والذي انعكس إيجابيا على متلقي الخدمة، فالمرافق الطبية جميعا تقدم نفس الخدمة، وتتنافس على نفس المريض، مما جعل بين يدي المريض مجموعة واسعة من الخيارات للاختيار من بينها، فأصبح المرضى أكثر رضى من أي وقت مضى مع توقعات عالية لجودة الرعاية المقدمة وطلبات أسعار أقل، مما دفع إلى خلق سباق لخفض الأسعار إلى القاع، وهو سباق لا يرغب أحد في الفوز به. وقد يحاول البعض تجاوز هذا كله من خلال توفير أجهزة أفضل تكنولوجيا، أو التفوق في سرعة الخدمة وطريق توفيرها، ومع ذلك سيبقى تفوقا ليس جذريا، ولربما يحلو للبعض تسميته محاولات يائسة لكسب موطيء قدم، فلكي تكون مختلفا فذلك يعني أن تتميز بسمات تنافسية خاصة بك، وأن لا يمكن لأحد تقديم ما تقدمه لمرضاك في مكان آخر.
الملاحظ أن معظم استراتيجيات جلب المرضى المستخدمة في هذا الجانب تعتمد أساليب غير مدروسة ومبنية جميعها ( الحملات الإعلانية، أو التسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو حتى الكلام الشفهي )، على شيء واحد وهو: الحصول على العميل.
إحدى الإحصائيات تفيد بأن تكلفة الحصول على مريض جديد تعادل من 5-25 ضعفا أكثر من تكلفة الاحتفاظ بعميل حالي. وهذا يستدعي إعادة النظر في آلية العمل، وضرورة الاهتمام بآلية الاحتفاظ بالعميل بدل التركيز على الآليات مرتفعة التكلفة لتوفير التدفق النقدي.
قد تلجأ بعض المنظمات في سبيل الاحتفاظ بالعميل في القطاع الصحي باللجوء إلى ما يمكن تسميته مجرد تقنيات -ليست متماسكة بالدرجة الكافية- أكثر من تسميتها باستراتيجية، كاللجوء إلى الاستفادة من استراتيجية التخصيص والتي تقوم على تصميم رسائل التسويق لكل عميل على حدة بناءً على تفضيلاتهم وسلوكهم وغيرها من البيانات ذات الصلة. وفي قطاع الرعاية الصحية فإن (PHC) يعني تقليديًا اختبار المؤشرات الحيوية المتعلقة بالأمراض، وتوفير بروتوكولات العلاج المستهدفة، وقد توسع معناه اليوم ليشمل حلول رعاية صحية شخصية وقائمة على الأدلة، ومدعومة بالتكنولوجيا، والوصول عند الطلب إلى معلومات الرعاية الصحية الحيوية لكل فرد.
قد يرى البعض أن وضع خطة متابعة قوية للمرضى كالمراقبة عن بُعد لأعراضهم، وجدولة مواعيد المتابعة في الوقت المناسب سيؤدي إلى تقليل تكاليف الرعاية الصحية غير الضرورية . وبدلاً من الاعتماد على نماذج الرعاية القديمة كالمكالمات الهاتفية، يتوقع المستهلكون خيارات رعاية أسرع وأكثر مرونة كالرسائل النصية، ورسائل البريد الإلكتروني وغير ذلك.
خلال جائحة كورونا ومع استمرار انتشار الوباء في الظهور في جميع أنحاء العالم رأينا اللجوء إلى خيارات الرعاية الصحية عن بعد وكيف غرست نفسها بشكل أعمق في نسيج الرعاية الصحية. فوفقًا لدراسة في عام 2021 فإن 61٪ من الأشخاص الذين استخدموا الرعاية الافتراضية خلال جائحة كورونا أكدوا رغبتهم في استمرار وصولهم إلى كل من الخدمات الصحية الافتراضية والشخصية مستقبلا. وتُظهر البيانات أن منصات الرعاية الصحية عن بُعد في الولايات المتحدة تساعد في منع المرضى من الزيارات غير الضرورية إلى قسم الطوارئ، مما يساهم في توفير حوالي 1500 دولار على مقدمي الخدمة ولكل مريض، وفي الوقت ذاته فإن 59٪ من مستهلكي الرعاية الصحية يشعرون بالإحباط بسبب الانتظار لأخذ موعد، ناهيك عن ساعات العمل الإضافية للكادر الصحي والتي يمكن الاستعاضة عنها بجدولة مواعيد عبر الانترنت لينال المستهلك ما يريد، ويتخلص موظفوك من المهام الإدارية المرهقة التي يمكن الاستغناء عنها. وهذا يقودنا إلى التدقيق في استراتيجيات التسويق الرقمي في حقبة ما بعد كورونا، إذ يجب أن تفهم شركات الرعاية الصحية وتستوعب ما يفضله المستهلكون في التواصل، والوقوف على احتياجاتهم الشخصية، والعادات المفضلة في عملية التسوق في الرعاية الصحية. وبالتالي اعتماد تقنيات توفر خيارات رعاية أكثر سهولة ومرونة وبأسعار معقولة لجذب المرضى والاحتفاظ بهم. ولتنفيذ هكذا استراتيجية فإننا سنعود فعليا إلى قضية البيانات ومدى مساهمتها في فهم رغبات واحتياجات وتوقعات مستهلك الرعاية الصحية وبالتالي الوصول إليهم في الوقت المناسب. وبفهمك للموقع الديموغرافي والجغرافي والحالة الاجتماعية والاقتصادية ستستطيع التفاعل معهم بشكل أكثر فاعلية. وستساعد هذه البيانات فرق التسويق في بناء حملات مدروسة تخلق استجابة عاطفية لخبرات الرعاية الصحية ومنتجاتها. ومن الضروري الاهتمام بمعرفة شخصية المستهلكين لخدمة الرعاية الصحية لتحديد رغباتهم واحتياجاتهم، بناء على التركيبة السكانية والحالة الصحية والمواقف العاطفية ومنظومة القيم.
لقد أثبتت التجربة أن كل مايعزز الارتباط العاطفي بالعلامة التجارية يخلق مستهلكين مخلصين على المدى الطويل.
يمكنك إنشاء حملات توعية شديدة الخصوصية تجذب مستهلكي الرعاية الصحية، ووفقا لأحدث الاستبيانات فإن 90٪ من المستهلكين الأمريكيين يستجيبون بشكل إيجابي لتقنيات التخصيص. وبلغ حجم ما تحققه رسائل البريد الإلكتروني الشخصية لعيد الميلاد أكثر من 400٪ من الإيرادات مقارنة برسائل البريد الإلكتروني الترويجية العادية. لتكون النتيجة تحقيق عائد استثمار يزيد عن 150٪ .
لقد كان لوزارة الصحة في الأردن عبر استراتيجيتها في تحسين جودة الرعاية الصحية -إما من خلال رفع فاعلية وكفاءة الخدمة المقدمة، أو من خلال استحداث برامج خدماتية صحية لم تكن موجودة سابقا - مساهمة فاعلة في خلق مزيد من التحديات أمام قطاع الرعاية الصحية الخاص في الأردن، فبات من الضروري إعادة النظر في استراتيجيته في الحفاظ على مستهلك الرعاية الصحية -أو حتى الحفاظ على العائد على الاستثمار -من خلال –مثلا- فتح سوق أكبر للسياحة العلاجية داخل الأردن وعدم الاعتماد على المستهلك المحلي.
بات من الضروري عقد القطاع الخاص شراكات أكثر وأكبر مع وزارة الصحة، والتي دعا إليها جلالة الملك في أكثر من محفل، وقد رأينا بأم أعيننا خلطا واضحا عند البعض بين مفهوم الخصخصة والشراكة، لدرجة أن البعض لم يفرق بينهما، مع أن الطبيعة المرنة للشراكة بين القطاعين العام والخاص تؤسس لإنشاء نظام مالي مستدام، وإصلاح بناء القدرات، ومراقبة التكاليف وتحسين صحة المجتمع، وتحسين تغطية خدمات الرعاية الصحية الأولية، وكذلك زيادة الطلب على الخدمات الصحية، إلى غير ذلك من الفوائد التي ليس هذا مجال حصرها. بل مما يؤكده صاحبا دراسة "ممارسات الابتكار والرقابة التنظيمية: حالة المزيج بين القطاعين العام والخاص في مكافحة السل في الهند": أن الشراكة بين القطاعين العام والخاص يمكن أن تقدم رسالة طمأنة بشكل كبير من الخوف من خصخصة خدمات الرعاية الصحية. فلماذا هذا الاستغراب من توسع الشراكة بين القطاعين العام والخاص في مجال الرعاية الصحية مع أن الإسراع في تكثيف هذه الشراكة بات جزءًا لا يتجزأ من التدخلات الصحية الفعالة. بل بتنا نتطلع إلى شراكة أكثر فاعلية في تقديم خدمات الرعاية الصحية الأولية، وتحديد نوع هذه الخدمات التي تم / أو يمكن تقديمها عبر الشراكة بين القطاعين العام والخاص. أو لعلنا ننظر في ترتيبات أو أساليب يمكن استخدامها لنقل خدمات الرعاية الصحية الأولية إلى القطاع الخاص بتكاليف توازي أو أقل مما يتم وضعه. طبعا هذا مجرد استشراف للمستقبل خاص بصاحب المقال، ففي النهاية فهكذا خطوات تحتاج مزيدا من الدراسة المبنية على خبرة مستخدمي خدمة الرعاية الصحية الأولية، والدروس المستفادة. وقد يرى البعض قصر هذه الشراكة على خدمات الرعاية الصحية الأولية الأساسية، أو في برامج التثقيف الصحي وسبل تعزيزها (فعلى سبيل المثال تم إطلاق الشراكة بين القطاعين العام والخاص في عام 2010 من قبل الاتحاد العالمي لطب الأسنان التابع للاتحاد الدولي لطب الأسنان وشركة يونيليفر بشكل ملموس لتحسين صحة الفم بين الأطفال من خلال تشجيع الأطفال في رياض الأطفال والمدارس والأمهات الطلاب وعامة السكان على تنظيف الأسنان باستخدام معجون أسنان يحتوي على الفلورايد مرتين على الأقل يوميا)، أو لربما في خدمات الأمراض المعدية.
غالبية الدراسات التي اطلعت عليها تفيد بأن تقديم خدمات الرعاية الصحية الأولية من قبل الجهات الفاعلة في القطاع الخاص زاد من الوصول إلى الخدمات، وحسن جوانب الرعاية، وأدى إلى نتائج إيجابية مختلفة. إلا أنني لن أخفي أن صاحب دراسة" هل الشراكة بين القطاعين العام والخاص بديل فعال للحكومة في توفير الرعاية الصحية الأولية؟" أظهر بعض الانتقاد وأن إدارة خدمات التحصين، وتعزيز الصحة، وعلاج الأمراض، والملاريا عن طريق الشراكة بين القطاعين العام والخاص يمكن أن تكون أيضًا غير كافية وبشكل خطير.
في النهاية فإن هذه الشراكة تعني تقاسم المخاطر والمسؤوليات والموارد والفوائد، وهي ترتيبات تعاونية طوعية لتحقيق هدف مشترك أو الاضطلاع بمهمة محددة. وكمثال على ذلك تلك الاتفاقيات التي عقدتها وزارة الصحة مع مستشفيات القطاع الخاص بما يخص متلقي الخدمة من أصحاب الدرجة الثانية والثالثة من منتفعي التأمين الصحي الحكومي وعلاجهم في أقسام الطواريء فيها. وقد يكون قطاع الرعاية الصحية الخاص أمام تحد في إعادة النظر في أسعار الخدمة الصحية المقدمة والتي تجعل مستهلك الخدمة الصحية يعيد النظر في تحديد وجهة تلقيه للخدمة.
للحديث تتمة .. دمتم بخير
https://albaladnews.net/article/368012
تعليقات
إرسال تعليق