قمش ثم فتش .. جمع المعلومات سهل، والعبقرية في الاستفادة منها .. رسالة لكل معني بالإدارة الاستراتيجية.

 

مع ما أخذ وسيأخذ منا الحديث عن الإدارة الاستراتيجية من وقت، لكننا وفي خضم ذلك فاتنا الإجابة على سؤال مهم: كيف لنا أن نمارس هذا النوع من الإدارة؟ أو بصيغة أخرى: ماهي مكونات وعناصر الإدارة الإستراتيجية؟

من السهل أن نجيب عن هذا السؤال بالطريقة الأكاديمية التي عهدتها في الجامعة أثناء دراستي للماجستير فنقول: تتكون الإدارة الإستراتيجية من أربعة عناصر أساسية: المسح البيئي، وصياغة الإستراتيجية، ثم تنفيذها، وأخيرا التقييم والمراقبة.

لقد كان الجواب سهلا مقتضبا -فالكلام سهل كما يقولون-؛ لكن الصعوبة تكمن هنا في عمق الفهم والتطبيق. وخاصة من أولئك الذي يقومون بالتصدر لوضع الاستراتيجية لأي منظمة كانت وبغض النظر عن القطاع الذي تنتمي له هذه المنظمة.

ففي الغالب يتم وضع الاستراتيجية في الغرف المغلقة وبكلام إنشائي ممل، ويعتمد واضعوها – لعلهم- على استراتيجيات مماثلة لمنظمات في نفس القطاع، متجاهلين الفوارق الجوهرية بين المنظمات في نقاط قوتها وضعفها وفرصها والتهديدات التي قد تواجهها.

من هنا كان أرباب هذا الفن الإداري العزيز يعملون ويعلمون أن أمامهم عمل شاق ليس بالسهل أبدا، فأمامهم بيئتين من العمل لا بد من مسحهما: أحدها البيئة الداخلية، وثانيها: البيئة الخارجية.

هم أمام جهد هائل يقوم على اختيار فريق كامل يقوم بالمراقبة، والتقييم، ونقل المعلومات من البيئات الخارجية والداخلية إلى الأشخاص الرئيسيين داخل المنظمة ليبدأ بعدها تحديد العناصر الخارجية والداخلية التي ستحدد مستقبل المنظمة.

أشهر الطرق المستخدمة في عالم الإدارة الاستراتيجية وأبسطها هو إجراء المسح البيئي من خلال مايعرف بالتحليل الرباعي  . SWOT

وهنا كما يقال تظهر القدرات ! فالفريق أمام امتحان نتيجته ستحدد قرار مستقبلي، فالمطلوب منهم وصف نقاط القوة S (الإيجابيات) ، والضعف W (السلبيات) ،والفرص O والتهديداتT والتي تعتبر عوامل إستراتيجية لمنظمة معينة.. هنا تظهر العقلية الفذة في الإدارة.

نحن هنا عندما نتحدث عن مواطن القوة في المنظمة فنحن نحاول وضع أيدينا على مميزات المنظمة التي تجعلها متفوقة على الآخرين، أو بعبارة أخرى: ماهي الإيجابيات التي لدينا؟ ماذا نحسن؟ ما الذي يراه غيرنا فينا مميزا؟ وقد تكون الإجابة في الموارد المالية أو البشرية أو كليهما، أوغيرهما.

أما مواطن الضعف فهنا نحتاج إلى مكاشفة ومصارحة مع الذات لكي نضع أيدينا علىى مواطن الخلل، فنحن في وقت لا يصلح معه التغطية على السلبيات الداخلية، فلو سألنا بعضنا بعضا سؤالا: مالذي يمكننا تحسينه؟ مالذي ينقصنا، وأين؟ وما الذي يراه غيرنا فينا نقطة ضعف؟ فقد تكون الإجابة –أيضا- مالية أو بشرية، أو لعلها سمعة سيئة تحيط بالمنظمة، أو غير ذلك.

نحن حتى الآن نتحدث عن بيئة المنظمة الداخلية .. قريتنا الصغيرة نعرفها ونعرف أهلها، ومن السهل علينا تحديد الجيد من السيء فيها، فحلاق القرية والخباز والداية سيكون لهم مساحة لإعطاء مايعرفونه بكل شفافية وصدق.

المهمة لم تنته .. فالفريق معني بسبر أخبار القرى المجاورة ! فمعرفة طبيعة المنافسين غاية في الأهمية لدى الفريق الواضع للاستراتيجية، وهو ما يعرف في الإدارة: البيئة الخارجية.

حين نتحدث عن البيئة الخارجية فنحن هنا نتحدث عن متغيرات (الفرص والتهديدات) وهي في العادة لا تخضع لسيطرة الإدارة العليا على المدى القصير. فالبيئة الخارجية تعني البيئة المجتمعية وتضم الكثير من القوى الاقتصادية، وأخرى اجتماعية، وتكنولوجية، وقانونية، وسياسية وثقافية. وبالإضافة إلى البيئة المجتمعية هناك بيئة العمل التي تحيط بالمنظمة وتشمل: الحكومات، والمساهمون، والموردون، والمنافسون، والدائنون، والنقابات بأنواعها، والعملاء، والمناخ، والموارد بأنواعها، وحتى الحياة البرية.

أظن أن الكلام هنا كان أكاديميا بحتا !! لكنني هنا أعرض الإدارة بلغة أخرى تجعلني أقول: في قريتنا فرص يمكن استغلالها، فمثلا نحن قريبون من البحر، وهذا سيوفر علينا مزيدا من الجهد والوقت في صيد السمك ونقله مما يجعل أمامنا فرصة التميز في السعر –مثلا-. بلفظ آخر: هناك فرصة أو لعلها فرص متاحة لنا وليست متاحة للآخرين.

شركة (ستاربكس) العالمية حين تنظر في استراتيجيتها المعلنة تجد أن مواطن القوة لديهم تكمن في العلامة التجارية القوية، وجودة المنتج العالية والمعيارية، وسلسلة التوريد الدولية الواسعة النطاق والتي يمتلكونها. لكن في نفس الوقت هم لا يخفون أنهم يخشون من كون أسعارهم عالية! وفي نفس اللحظة من السهل تقليد منتجاتهم من قبل شركات منافسة، وهاتان نقطتا ضعف لم تغفلهما الشركة. لكن الشركة تعلم أن أمامها فرصة الأسواق النامية التي يمكن أن تدخلها بكل قوة، مع قدرتها على إنتاج منتجات جديدة تزيد من حصتها السوقية وتعزز ميزتها التنافسية. لكن ومع ذلك تبقى التهديدات قابعة أمامها: المنافسة من شركات أخرى، وجائحة كورونا –في وقتها-التي اضطرتها لإغلاق بعض الفروع، ومسألة تقليد المنتجات.

كما رأينا فإن تحليل SWOT يعتبر دعمًا قويًا لصنع القرار؛ لأنه يمكّن المنظمة من الكشف عن فرص النجاح التي لم تكن مفصّلة سابقًا. كما أنه يسلط الضوء على التهديدات قبل أن تصبح مرهقة للغاية. ويمكن لتحليل SWOT تحديد مكانة السوق التي تتمتع فيها الأعمال التجارية بميزة تنافسية.و يمكن أن يساعد الأفراد أيضًا في رسم مسار وظيفي يزيد من نقاط قوتهم وينبههم إلى التهديدات التي يمكن أن تحبط النجاح.

تحليل SWOT يفحص السمات والموارد الداخلية التي تدعم نتيجة ناجحة، مثل خط إنتاج متنوع أو عملاء مخلصون أو خدمة عملاء قوية. ويفحص كذلك العوامل والموارد الداخلية التي تجعل تحقيق النجاح أكثر صعوبة، مثل العلامة التجارية الضعيفة، أو الديون المفرطة، أو عدم كفاية الموظفين، أو التدريب.كما ويفحص العوامل الخارجية التي يمكن للمنظمة الاستفادة منها مثل الحوافز الضريبية أو التقنيات التمكينية الجديدة. وكذلك التعرف على العوامل الخارجية التي يمكن أن تعرض نجاح الكيان للخطر ، مثل المنافسة المتزايدة أو إضعاف الطلب أو سلسلة التوريد غير المؤكدة. وغالبًا ما تُستخدم مصفوفة SWOT عادةً مربعًا مقسمًا إلى أربعة أرباع، حيث يمثل كل ربع أحد العناصر المحددة. ويقوم صانعو القرار بتحديد وإدراج نقاط قوة محددة في الربع الأول، ونقاط الضعف في الربع التالي، ثم الفرص، وأخيراً التهديدات.

المعقد في الأمر أن ما قد يكون اليوم يشكل فرصة للمنظمة قد ينقلب مع الأيام ليصبح تهديدا! وما كان في البدايات إيجابيا ونقطة قوة قد يصبح مصدر ضعف للمنظمة، وهذا يستلزم منا المراقبة والمتابعة لضمان بقاء الإيجابيات ومصادر قوتنا كما هي بل وتعزيزها مع الزمن.

يجب أن تكون النتيجة النهائية لتحليل SWOT مخططًا أو قائمة تحوي خصائص الموضوع. وتعالوا بنا نمارس تحليلSWOT  على موظف وهمي. فحين قمنا بجمع المعلومات حوله وجدنا الآتي:

نقاط القوة: مهارات اتصال جيدة، ويصل مكان عمله في الوقت المحدد، ويتعامل مع العملاء جيدًا، ومتوافق بشكل جيدً مع جميع الأقسام، ويمتلك القوة البدنية ، ومتاح دائما.

نقاط الضعف: يأخذ فترات استراحة طويلة للتدخين، ولديه مهارات فنية منخفضة، ويميل بشدة إلى قضاء الوقت في الدردشة.

الفرص: قد يكون موظف استقبال في واجهة المتجر، أو لتحية العملاء ومساعدتهم في العثور على المنتجات، والمساعدة في الحفاظ على رضا العملاء، أومساعدة العملاء بعد الشراء، وضمان الثقة في الشراء.

التهديدات: أحيانًا يضيع وقتا طويلا أثناء ذروة العمل بسبب فترات الراحة، وأحيانًا كثيرة يقضي وقتا طويلا  مع كل عميل بعد البيع، ووقتا طويلا جدًا في الدردشة بين الأقسام.

باستخدام تحليل SWOT سنساعد المنظمة على اكتساب نظرة ثاقبة على وضعها الحالي والمستقبلي في السوق أو مقابل هدف معلن. ويمكن للمنظمات أو الأفراد الذين يستخدمون هذا التحليل رؤية المزايا التنافسية والآفاق الإيجابية بالإضافة إلى المشكلات الحالية والمحتملة. كما أنهم وباستخدام هذه المعلومات  يمكنهم تطوير خطط عمل أو أهداف شخصية أو تنظيمية للاستفادة من الإيجابيات ومعالجة أوجه القصور.

إنه وبمجرد تحديد عوامل SWOT  يمكن لصانعي القرار تقييم ما إذا كانت المبادرة أو المشروع أو المنتج يستحق المتابعة وما هو مطلوب لإنجاحها؟. بمعنى آخر يهدف التحليل إلى مساعدة المنظمة على مطابقة مواردها مع البيئة التنافسية.

في وزارة الصحة –مثلا- وبالنظر إلى بيئتها الداخلية نجد هناك مواطن قوة لعل من أهمها الوفرة في أعداد الكوادر الطبية على اختلاف تخصصاتهم وهذا من شأنه أن ييسر الوصول إلى تغطية صحية شاملة، وكذلك وجود تخصصات طبية مؤهلة متنوعة، والقدرة على توسيع الخدمات الصحية المقدمة للمواطن من خلال شراكات يتم عقدها مع جهات أخرى سواء من القطاع الخاص أو حتى العام وهذا ما جرى فعلا وكمثال عليه: مركز سميح دروزة للأورام بالتعاون مع مركز الحسين للسرطان(البشير)، ومستشفى الجراحات التخصصية من خلال شراء خدمات أمهر الأطباء في الأمراض القلبية والصدرية وجراحاتها (البشير)، ورفد مستشفيات طرفية بتخصصات لم يسبق إليها بالتعاون مع كوادر الخدمات الطبية الملكية (الكرك) في تكاملية فريدة من نوعها.

إن المرونة التي تتمتع بها وزارة الصحة جعلت من اليسير عليها تبني نظام تطوير مهني مستمر، وتحديث برامج إقامة للأطباء وتدريبهم عليها. إلى غير ذلك من مواطن القوة التي ليس هذا موضع تعدادها. لكن ومع ذلك فلا زلنا نعاني من ضعف في أتمتة كافة الخدمات التي يمكن أتمتتها، وإن كانت الوزارة تسير في هذا الخط ببطء قد يعزى لوجود أطراف خارجية قد يكون لها دور في بطء هذه العملية. ومع ذلك فقد نجحت الوزارة في الانتقال إلى النظام الإلكتروني في ما يخص خدمات المرضى من خلال نظام (حكيم) في أكثر المواقع الطبية فيها ولا زال مشروع الربط جاريا على قدم وساق. كما استحدثت آلية توصيل الأدوية المزمنة إلى أصحابها عبر اتفاقية مع البريد الأردني.

الشاهد: أن مواطن الضعف داخل منظومة وزارة الصحة لا يمكن سبرها إلا من خلال التواصل مع كافة الكوادر في المواقع للاستماع إليهم والوقوف على كافة البينات في هذا الجانب.

لعل أعظم فرصة أمام وزارة الصحة هي أطلاق رؤية التحديث الاقتصادي التي أطلقها جلالة الملك – حفظه الله – فقد فتحت الباب على مصراعيه أمام دعم حكومي للوزارة لم يسبق له مثيل، وليس بالضرورة أن يكون في الجانب المادي فقط بل حتى في سن التشريعات التي من شأنها أن تزيد من مواطن القوة والفرص.

من أعظم التهديدات التي تواجه النظام الصحي عموما في الأردن ووزارة الصحة خصوصا قضية اللاجئين وما يترتب عليها من تبعات مالية هائلة بالتزامن مع النمو الاقتصادي البطيء وتصاعد تكاليف الخدمات الصحية في ظل زيادة المديونية وتقليص الإنفاق العام.

أنا هنا جئت ببعض الأمثلة ولست معنيا بالسبر الشامل العام فهذا له وقته ومكانه، لكنني أردت أن يمارس القاريء الكريم معي شيئا من الطريقة المتبعة في وضع الاستراتيجيات من خلال استخدام ما يعرف بالتحليل الرباعي.

 

للحديث بقية طبعا بمشيئة الله .. دمتم بخير

https://albaladnews.net/article/367475

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة| فكر أسود عابر للقرون .. "القرامطة" يضربون من جديد ..

شكرا أبا هيثم .. شكرا محمد الوكيل ،،

قراءة | الخاصرة الرخوة في حكومة دولة بشر الخصاونة ..