قراءة| النّفعيّة والواقعيّة السّياسيّة .. قفاز نظيف ويد قذرة وما هو مفيد فهو ضروريّ
كتاب “الأمير” للمفكر والفيلسوف الإيطالي “نيكولو مكيافيلي” نتاج يد رجل برتبة مستشار معزول من منصبه ومنفي عن بلده بعد أن تم التنكيل فيه في زنازين فلورنسا قام على إثرها بتسطير تجربته في بلاط السياسة والحكم والعسكرية.
لم يكن بالمستشار العادي في بلاط حاكم فلورنسا .. كان سفيرا لبلاده .. جنديا صلبا شارك في المعارك .. بعبارة أخرى كان رجل دولة بامتياز ومع ذلك جرى عليه ماجرى من التنكيل بعد أن طالته يد التغيير.
كان لميكافيلي كتابان: “الأمير” نشر عام 1532، و”المطارحات” نشر عام 1531، وكلاهما لم ينشرا في حياته، فقد توفي ميكافيلي عام 1527. ورغم أن النشر كان بموافقة البابا إلا أنه وبحلول عام 1559 كانت كل كتبه محظورة.
ما شدني أنا شخصياً في هذا الكتاب أن فهم الناس له كان متناقضا تماما ..
فطائفة حملته على الجانب المأساوي للسياسة، وأن أسلوب الديكتاتورية والشر هو الناجح النافع الذي ينبغي أن يعتمده الساسة مع شعوبهم.
وعلى النقيض تماما يراه البعض توجيها للطغاة -أصلا – كيف يحكمون قبضتهم على الناس.
فهل أصاب بعض النقاد حين وصفوه ب(أستاذ الشر) !!.
ميكافيلي كان في كتابه يقدم نصيحة لزعيم دولته حينها حيث جاء في الإهداء: إهداء من نيقولا ميكافللي إلى لورنزو الابن العظيم لبيرو دي مديتشي.
خبير بلاط يعطي عصارة خبرته ويقدمها على طبق من ذهب .. مراعين قضية مهمة جدا وهي أن ميكافيلي لم يكن رجل دين ولا صاحب ديانة .. فهو صاحب نظرية فصل الدين ( الكنيسة ) عن الدولة ! وبالتالي فنصائحه في هذا الجانب جاءت من صميم مرحلة مهمة في أوروبا تعكس آلية إدارة دفة الحكم إبان الصراع مابين رجال الدين ورجال الدولة.
وهي مرحلة خاصة بحال مشابه.
ميكافيلي راعى كيفية الوصول إلى السلطة حتى ولو اقتضى الأمر اغتيال الناس، وممارسة الغدر، ونقض المواثيق والعهود ! ..
بعبارة أخرى: مرحبا بالسلطة حتى وإن كانت بلا مجد.
وهو هنا لايحض على قتل الناس لمجرد القتل فقط، بل يراه وسيلة لا مفر منها عند محاولة زعزعة الحكم والسلطة. اي نعم هي وسيلة لن تجلب المجد لكنها ستضمن بقاء الدولة.
مبادئ ميكافيلي لم يهتم بها فقط الساسة الأوروبيون – طبعا حتى تخلوا عنها داخلياً في القرن الثامن عشر الميلادي – ولكن باتت نصائح ترسم الطريق لكل باغ للرياسة في مجتمعه.
أكثر قاعدة تنقل عن ميكافيلي هي: “الغاية تبرر الوسيلة”. مع أني لم أرها مذكورة في كتابه نصا، ولم أره قد جعلها قاعدة أساسية، وهذا يظهر جليا في قوله:
“إن الحاكم يجب أن يكون صالحا، ولا يستخدم الشر إلا في حالة واحدة؛ أن يحفظ مصالح الدولة”.
وهذه العبارة لاتنسجم أبدأ – في نظري على الأقل – مع من يدعو إلى استخدام نظريات “مكيافيلي” لأغراض بعيدة لا علاقة لها بمصلحة الدولة.
باختصار فإن ميكافيلي يكتب لقائد دولة وطريقة حكم، وليس لرجالات السياسة هنا وهناك. مع التأكيد على أن الشر الخاص إن وقع في سبيل رفع ودفع شر عام قاعدة فقهية معمول بها في السياسة الشرعية.
برأيي المتواضع فإن ميكافيلي لا يخاطبك أنت ولا يخاطبني أنا .. هو يخاطب الحاكم وينصحه كيف يستمر في الحكم .. فينصحه بالرحمة والوفاء والنزاهة بل والتدين! لكن أيضا ينصحه أن يتخلى عن ذلك كله وفي لحظة إذا اقتضى الأمر ذلك .. أو كما يحلو له أن يصفها [ التحلي بسياسة الأيدي القذرة والقفازات النظيفة ].
فكيف استطال السياسيون على تلك القفازات فلبسوها، وأخفوا أيديهم القذرة فيها، وصاروا دائما يظهرون بها !
إن ما يجوز للسلطان فعله لضمان بقاء الدولة بهيبتها وقوتها أمام أعدائها لا يجوز أن يطبقه غيره في مجتمعه للوصول إلى السيادة.
اليوم ترى نصائح ميكافيلي يعمل بها كل من هب ودب فانتشرت الأيدي القذرة ، وبات الحصول على النفع مبررا لمزيد من الكذب والغش والخداع والنفاق.
تعليقات
إرسال تعليق