قراءة | تأملات السمعاني في كلمات خطاب العرش السامي ( الحلقة الثانية: المسار الاقتصادي ).

 كان من توجيهات جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين في خطاب العرش السامي في افتتاح الدورة العادية الثانية لمجلس الأمة التاسع عشر قوله حفظه الله:

«التحديث الشامل بمساراته السياسية والاقتصادية والإدارية يشكل بكل جوانبه مشروعا وطنيا كبيرا، يجب أن تدور حوله كل الأهداف الوطنية وتسخر الجهود والموارد لتحقيقه. وعلى مؤسسات الدولة تبني مفهوم جديد للإنجاز الوطني يلمس نتائجه المواطنون، ولن نقبل بالتراجع أو التردد في تنفيذ هذه الأهداف ».

وكنا قد أفردنا مسار التحديث السياسي في خطاب جلالة الملك بمقال منفصل، وها قد عدنا اليوم  لنلقي الضوء على مسار التحديث الاقتصادي.

 حدد جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين هدف مسار التحديث الاقتصادي بأنه «تحسين مستوى معيشة المواطنين وتوفير فرص التشغيل والاستثمار بالاستناد إلى العمل الاستراتيجي، حتى تعود الحيوية إلى كل القطاعات الإنتاجية ويتعافى الاقتصاد من جديد».

ويمكن وضع عنوان مختصر لهذا الهدف عنوانه:«مستقبل أفضل ».

والسؤال: كيف ستحقق حكومة الدكتور بشر الخصاونة مستقبلاً أفضل للمواطنين؟!
وكيف ستتمكن من تحقيق توجيهات جلالة الملك في هذا المسار خصوصاً؟

كإطار نظري وجوابا لهذا السؤال فإن المهمة شاقة وشاقة جدا في ظل ظروف اقتصادية صعبة يمر بها الأردن؛ لذا فنحن بحاجة إلى استراتيجية غير عادية تعمل على الخروج بالأردن من عنق الزجاجة.. فآخر بيانات صادرة عن وزارة المالية تؤكد ارتفاع الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في النصف الأول من العام الحالي بنسبة 107.6 بالمئة، ليصل إلى نحو 36.5 مليار دينار (51.5 مليار دولار)، بزيادة تبلغ قيمتها 757 مليون دينار عن نهاية عام 2021.
وتشير تقديرات إلى أن "العجز المُجمّع" في قانوني الموازنة سيبلغ هذا العام (2.4 مليار دينار)، ونحو (3.3 مليار دينار) من دون احتساب المنح الخارجية، لتتم تغطية العجز عن طريق الاقتراض، الأمر الذي سيرفع الدين العام إلى 38.8 مليار دينار، أو ما نسبته 114.7 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.. وبلغ حجم الفوائد في موازنة عام 2022 مليارا و428 مليون دينار، وهي أكبر من مخصصات أي وزارة في الحكومة.

أنا لست خبيرا اقتصاديا .. لكني أعلم أن الحياة تجارب .. والسعيد من وعظ بغيره والشقي من وعظ بنفسه .. 
الاقتصاد الوطني وإن كان يعاني .. إلا أن دولا كثيرة عانت أكثر مما يعاني منه الأردن اليوم لكنها استطاعت النهوض بنفسها حتى أصبحت في مصاف الدولة الصناعية الكبرى.

في عام ١٩٦٥ وفي شهر آب تحديدا استيقظت سنغافورة على خبر مفزع .. كان هذا الخبر هو طردها من الاتحاد الماليزي .. 
ثلاثة ملايين نسمة معظمهم عاطلون عن العمل، وأكثر من ثلثي هذا العدد يعيشون في عشوائيات ومبان آيلة للسقوط، 
وبمساحة أصغر من الأردن، بدون بنى تحتية، ولا موارد طبيعية، وشبكة مياه وصرف صحية متهاوية، والمحيط بأكمله معادي لها باستثناء ماليزيا وإندونيسيا، والعالم بأسره يرفض المساعدة.

هذا الوضع المأساوي محبط لأي قيادة مهما بلغت من الذكاء .. لكن هذا الذكاء إذا وضع رؤيا مستنيرة، وكساه الصبر ( والصبر زين ) والنية الصادقة المخلصة فلا بد أن ترى الثمرة.

"لي كوان يو" هذا الرجل جاء برؤيا قلبت الأمور رأسا على عقب .. وصار مستحيل الأمس واقعا ملموساً .. 

"اصنعوا الإنسان قبل أي شيء" هذه إحدى القواعد التي رسخها.. 
فما فائدة الخدمات والمرافق والمنشآت الحديثة إذا كان الإنسان الذي يستخدمها بدائيا يتعامل مع كل شيء حوله ببدائية؟! إذا كان بلا أخلاق ؟! إذا كان بلا مباديء ولا قيم ؟!
وحتى تصنع إنسانا حضاريا يحسن التعامل مع كل شيء حوله فلا بد أن يكون التعليم في أرقى مستوياته ... 
أين نحن في مسيرتنا التعليمية؟!
أين هو الطالب في معادلتنا ورؤيتنا؟! فالعلم في الصغر كالنقش في الحجر ..
كم هو حجم الاهتمام بالتعليم وتطويره؟! كيف هي حال جامعاتنا؟! وأين هي في مصاف الجامعات العالمية؟! وما هو حال خريجي جامعاتنا؟! 

لي كوان يو هو صاحب مقولة: " اجعلوا سنغافورة خضراء ونظيفة".
وهو صاحب مقولة: "لا أعتقد أن طريق الديموقراطية تؤدي إلى التنمية. البلد يحتاج النظام أكثر من الديموقراطية".
"أطلق برنامجاً تصنيعيا شاملا، وركز على الصناعات كثيفة العمالة.
وبرضا شعبي، علق قدرًا كبيرًا من الحريات. فقمع النقابات، وجمع العمال في تنظيم واحد يخضع لسيطرته مباشرة. وفرض عقوبات على الفساد تصل للإعدام. وطهر حزبه من الماركسيين. فقيد حق العمال في الإضراب، وضيق على حرية التعبير والصحافة. وأصبحت قوانين البلاد شديدة القسوة، لكنها صديقة للمستثمرين، حيث الأجواء السياسية قابلة للتوقع ومستقرة للغاية.".
باختصار؛ "تم اقناع الشركات متعددة الجنسيات بالتصنيع في بلاده، عبر خلق بيئة آمنة وخالية من الفساد، قليلة الضرائب، وغير معاقة من قبل النقابات العمالية.
ومع تدفق الاستثمارات، طورت سنغافورة مواردها البشرية وبنيتها التحتية".

أسست المدارس الفنية بالتعاون مع الشركات متعددة الجنسيات؛ لتدريب عمالها في مجال تكنولوجيا المعلومات والبتروكيماويات والإلكترونيات، وسجلت الباقين في خدمات كثيفة العمالة كالسياحة والنقل.
تعاونت مع فريق مسؤول عن "الرؤى السلوكية” للمواطنين، وفرضت عقوبات قاسية على مخالفي السلوكيات العامة، وبينها البصق في الشوارع.
وأنشأت الحكومة مجلسًا لتنمية الإسكان، وأجرت عشرات آلاف الوحدات السكنية لمحدودي الدخل، ثم سمحت لهم بامتلاكها بالاقتراض من صناديق التقاعد، التي يدخرون فيها جزءًا من رواتبهم بشكل إجباري.

تجربة كاملة شاملة تستحق أن تدرس هي وغيرها .. فإذا كانوا رجالا فلدينا رجالا .. 

متى سنركز في الإدارة على التكنوقراطية، فهي الكفيلة بحماية الموظف من التدخلات التي تعيق العمل، ليتمكنوا من تدبر حلول منطقية في شروط مثالية تشبه المختبر.
متى سنركز على المواهب كقاعدة في العمل السياسي؟.
 لماذا لا نبحث عن الموهوبين منذ نعومة الأظفار، فيتم الاعتناء بهم وتقديمهم ليتسلموا مقاليد الإدارة مستقبلًا. وتبدأ عملية تحديد الموهوبين من المدارس فيعلموا وينشأوا ضمن عملية تعليمية وتربوية متقدمة. ثم يتم اختيار الأذكى والأكفأ ليتسلم القيادة في كافة وزاراتنا ومؤسساتنا.
عملية كاملة شاملة لبناء النخبة ليديروا كافة مفاصل الدولة باقتدار.
ولا ننسى في خضم ذلك كله تضمين خطتنا آلية حفظ الكفاءات ومنع هجرة العقول والأذكياء والمتفوقين. بل كيف لنا أن نستقطب العقول الخارجية المميزة لتعمل وتبدع  في الأردن.

سنغافورة في خلال سبع سنوات فقط استطاعت أن تنتقل من دولة منهارة كليا إلى دولة ربع شركاتها الصناعية إما أجنبية أو مشتركة، و ناتجها المحلي الإجمالي كان يتضاعف سنويًا، حتى باتت اليوم مركزًا ماليًا إقليميًا لخدمات الأعمال في شرق آسيا. 
ميناء سنغافورة اليوم من أكثر موانيء العالم ازدحاما، ويزورها عشرة ملايين سائح سنويا، ولتصبح سنغافورة في الترتيب السادس كأقل دولة في العالم فسادًا، بحسب  مؤشر عام 2017.

هل سنرى الأردن قريبا يحقق مايراه معظم الشعب المحبط مستحيلا؟!
بصدق ودون مجاملات .. نحن لسنا بحاجة إلى سوداوية النظرة، لكن سيكون التفاؤل ضربا من الوهم إذا لم يكن مبنيا على أسس متينة كالصخر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة| فكر أسود عابر للقرون .. "القرامطة" يضربون من جديد ..

قراءة | الخاصرة الرخوة في حكومة دولة بشر الخصاونة ..

حين لا تبقى فائدة من البقاء .. بادر بالرحيل .. فأرض الله واسعة