قراءة / الإدارة الاستراتيجية والاستفادة من التجارب .. إدارة سلاسل التوريد الامتحان الصعب
رأينا في مقالنا السابق كيف أن العولمة والاستدامة البيئية شكلتا تحديات حقيقية للإدارة الاستراتيجية في شركات الأعمال. ومدى صعوبة قيام شركة واحدة بتتبع جميع الاتجاهات التكنولوجية والاقتصادية والسياسية والقانونية والاجتماعية والثقافية المتغيرة في جميع أنحاء العالم في آن معا ووضع التعديلات اللازمة على استراتيجيتها تبعا لذلك! أبدا لن يكون ذلك بالمهمة السهلة.
لعل من أصعب الامتحانات التي جعلت الإدارة الاستراتيجية على المحك امتحان إدارة سلاسل التوريد !
لم تغب هذه القضية عن أذهان الإدارات العليا وكانت توقعات المديرين التنفيذيين والمخططين أن تكون سلاسل التوريد العالمية في خطر بسبب زيادة شدة العواصف والفيضانات الكبرى. أو من ارتفاع مستويات سطح البحر الناتج عن ذوبان الجليد القطبي والذي سيخلق مشاكل للموانئ البحرية. أو أن تكون الندرة المتزايدة للنفط سببا في زيادة تكاليف النقل بشكل كبير، لدرجة أن شركة كبرى مثل شركة تيسلا للسيارات الرياضية الكهربائية قامت بإعادة تجميع حزم البطاريات من تايلاند إلى كاليفورنيا لأن الأجور المنخفضة في تايلاند تم تعويضها أكثر من خلال تكاليف شحن حزم البطاريات التي تزن ألف باوند عبر المحيط الهادئ.
كانت جائحة كورونا ضربة موجعة لسلاسل التوريد في العالم .. بل إن المضحك المبكي في هذه الجائحة تحديداً .. أنه لم يقتصر تأثيرها خلال الجائحة نفسها على سلاسل التوريد العالمية، بل سبب انتهاء الجائحة - أيضا- ضغطا هائلا على سلاسل التوريد!
فذكرني ذلك بقول الشاعر:
ويلاه إن هي أقبلت أو أعرضت ..
وقع السهام ونزعهن أليم.
فمع انتهاء أسوأ حالات الوباء أضافت الشركات مئات الألوف من الموظفين، أي نعم إن النمو السريع يعد جيدا للشركات والعاملين، إلا أنه خلق أيضًا تحديات كبيرة. فالصناعات بأكملها والتي تقلصت بشكل كبير خلال الوباء مثل قطاعي الفنادق والمطاعم بدأت تحاول إعادة فتح أبوابها. وبعض الشركات لم تعد قادرة على التوظيف بالسرعة الكافية لمواكبة حاجتها المتزايدة للعمال، مما أدى إلى تسجيل 8.3 مليون فرصة عمل في أبريل في الولايات المتحدة. وأما الآخرون فكانوا لا يملكون ما يكفي من البضائع لتجنب نفاد المخزون. فبات الوضع صعبًا بشكل خاص بالنسبة للشركات ذات سلاسل التوريد المعقدة، حيث أصبح إنتاجها عرضة للاضطراب بسبب نقص المدخلات من الشركات الأخرى.
لله الأمر من قبل ومن بعد .. فعندما ضربت الجائحة العالم تكدست لدى الشركات بضائع غير مباعة بمليارات الدولارات، مما تسبب في زيادة نسب المخزون. ولكن مع تعافي الاقتصاد وزيادة الطلب لم تتمكن الشركات حينها من إعادة المخزونات بالكامل إلى مستويات ما قبل الوباء، مما تسبب في انخفاض نسب المخزون إلى المبيعات والذي تسبب في حدوث مشكلات متتالية في سلاسل التوريد الصناعية.
كان التأثير الآخر لهذا النقص في المخزون هو الزيادات المفاجئة في الأسعار. فمثلا -لا على سبيل الحصر ونتيجة للزيادة الكبيرة على طلب الأخشاب في قطاع البناء في الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت تكلفة الخشب في المنزل النموذجي الذي تبلغ مساحته 2000 قدم مربع أكثر من 27000 دولار مقارنة بفاتورة الخشب قبل الجائخة والتي كانت حوالي 7000 دولار .
وهذا لا ينفي أن أسعار الأخشاب فيما بعد تراجعت بسرعة، حيث انخفضت بنسبة 38 في المائة من أعلى مستوى لها، في إشارة مبكرة إلى أن بعض النقص قد يكون قصير الأجل.
انظر مثلا إلى قطاع انتاج السيارات، فشركات صناعة السيارات يبدو أنها قللت من تقدير الطلب على منتجاتها بعد بداية الوباء. فقد توقعوا ضعف الطلب، وألغوا طلبيات "أشباه الموصلات"، وهو عنصر يحتاج وقتا طويلا في التوريد، ناهيك عن أن هناك زيادة كبيرة في الطلب عليه من قبل الصناعات الأخرى.
ومما فاقم المشكلة هنا أن سلسلة التوريد في صناعة السيارات قد تشترك فيها العديد من البلدان! مما جعل من الصعب على صانعي السيارات تتبع الأسباب الجذرية للاختناقات، فمثلا قد يتم تصميم أشباه الموصلات من قبل شركة ما، ويتم تصنيعها من قبل شركة ثانية، وتدخل في تركيب مكون آخر (مثل الوسادة الهوائية) والذي يصنع من قبل مورد ثالث، وبعد ذلك فقط يتم تسليمها إلى مصنع تجميع الشركة المصنعة للسيارات.
لنا أن نقول أن هذا أمر ليس بالجديد وقد حصل في الماضي، إذ فوجئت العديد من الصناعات بالطلب القوي ووجدت مخزونًا ضئيلًا للغاية من سلع معينة. في حين تعرض آخرون لصدمة في العرض بسبب فشل المحاصيل أو كارثة طبيعية أدت إلى توقف المصانع الرئيسية مؤقتًا عن العمل، كالذي حدث بعد زلزال عام 2011 في اليابان. ومع ذلك وفي كثير من هذه الحالات قامت الأسواق بشق طريقها إلى التوازن بسرعة نسبية. ولعلنا نذكر كيف ارتفعت أسعار القهوة بسبب الضرر الذي لحق بمحاصيل البن، وكان آخرها في أواخر عام 2010. وفي كل مرة، عاد الطقس إلى طبيعته، وتحسنت المحاصيل، وانخفضت الأسعار إلى مستوياتها السابقة. وهو عين ماحصل في زبدة الفول السوداني وسط الجفاف في عام 2011، أو قضية البيض وسط تفشي إنفلونزا الطيور في عام 2015.
قد يستغرب البعض إذا قلنا أن دراسة حالة بيع ورق التواليت في الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة الجائحة يقدم مثالا حيا على الاستجابة المرنة من قبل شركات تصنيع ورق التواليت الأمريكية لمخاطر سلاسل التوريد!.
فالحجر الصحي وطلب الحكومة من الناس المكث في منازلهم خشية انتشار العدوى أدى إلى زيادة مفاجئة بنسبة 40 في المائة في الطلب على شراء ورق التواليت بالتجزئة (النوع الأكثر رقة الذي تستخدمه الأسر)!.
فهل نتوقع قدرة الشركات على تعويض هذا الطلب في ليلة وضحاها؟ خاصة أنها مادة تحتاج مستودعات ضخمة، والطلب في العادة كان ثابتا عند مستويات مستقرة، فلن تجد في المستودعات مخزونا يزيد عن حاجة الأمريكيين لمدة أسبوعين أو ثلاثة!. فما العمل مع مشاهد أرفف المتاجر وهي خاوية من هذه المادة جراء الإقبال على تخزينها؟
بالطبع الشركات المصنعة لن تقوم بإضافة خطوط إنتاج جديدة، ولا ببناء مصانع جديدة لتوسيع الطاقة الإنتاجية، فانتاج هذه المادة عملية تصنيع آلية بحتة، ومكلفة للغاية! إذ يلزمها آلات بمليارات الدولارات، بارتفاع أربعة طوابق تحتاج شهورا لتجميعها قبل خروج لفة واحدة من الخط. فما الذي حدث؟
قامت الشركات الأمريكية بتشغيل مصانعها بكامل طاقتها الاستيعابية وعلى مدار الساعة، وأعادوا تشغيل الآلات المتوقفة، واتجهوا إلى سياسة تشغيلية تقوم على تبسيط المنتج، فتحول البعض إلى المنتجات ذات البكرات الكبيرة التي يمكن أن توفر المزيد من الورق للمنازل دون إجراء تغييرات مكلفة على الآلات.
كل هذا ساهم في تقليص وقت خلو الأرفف من هذه المادة.
والسؤال: كيف نستفيد من تجارب الآخرين حين نحاول وضع خطتنا الاستراتيجية؟
كنتيجة لما مرت به الولايات المتحدة الأمريكية خلال جائحة كورونا وخاصة في باب سلسلة التوريد: أصدرت إدارة بايدن هاريس استنتاجات مراجعتها التي استمرت 100 يوم لسلاسل التوريد لأربعة منتجات مهمة وهي: تصنيع أشباه الموصلات، والتعبئة المتقدمة، والبطاريات ذات السعة الكبيرة مثل تلك الخاصة بالمركبات الكهربائية، والمعادن والمواد الهامة، والمستحضرات الصيدلانية والمكونات الصيدلانية النشطة. وبناء على هذه المراجعات كانت مهمة الإدارة العمل على معالجة السلاسل قصيرة الأجل، ونقاط الضعف طويلة الأجل، لتفادي المشكلة التي نجمت عن التركيز المفرط في إنتاج الموارد الأساسية في عدد قليل من الشركات والمواقع. كما وأنشأت الإدارة فرقة مهام لمراقبة عمل معيقات سلسلة التوريد لرصد ومعالجة قضايا الإمداد قصيرة الأجل. ومن مهام هذه الفرقة عقد اجتماعات لأصحاب المصلحة في الصناعات التي تعاني من مشاكل سلسلة التوريد الملحة مثل البناء وأشباه الموصلات، لتحديد الاختناقات الفورية ووضع الحلول المحتملة. واقترحت الإدارة مجموعة متنوعة من الإجراءات لتعزيز قاعدة الصناعات الأمريكية، وزيادة المرونة وتقليل المهل الزمنية للاستجابة للأزمات.
لقد تعهدت الإدارة الأمريكية بعكس السياسات طويلة الأمد التي أعطت الأولوية للتكاليف المنخفضة على الأمن والاستدامة والمرونة. فبسبب تجاهل هذه السياسات لتكاليف عدم الاستعداد للمخاطر، انتهى الأمر بالولايات المتحدة إلى اعتماد سلاسل إمداد هشة تم تعديلها وفقًا للتكاليف المرتبطة بهذه المخاطر، وهي أيضًا مكلفة للغاية. واقترحت الإدارة عكس هذا الضرر من خلال الاستثمار في البحث والإنتاج والعاملين والمجتمعات التي ستعيد بناء القدرة التصنيعية المستدامة في جميع أنحاء البلاد. وأوصت الإدارة وعلى وجه الخصوص بأن يدعم الكونجرس بما لا يقل عن 50 مليار دولار في الاستثمار لتطوير تصنيع وأبحاث أشباه الموصلات المحلية.
كان لزاما على الإدارة الأمريكية - والحالة هذه - إجراء مقترح آخر يعالج مواطن الضعف الدولية في سلاسل التوريد. إذ ليس من المنطقي إنتاج كل شيء في الداخل، وضرورة عمل الولايات المتحدة مع شركائها الدوليين في مناهج جماعية لمرونة سلسلة التوريد، بدلاً من الاعتماد على المنافسين الجيوسياسيين للمنتجات الرئيسية.
إن إعادة تشغيل الاقتصاد بعد انتشار جائحة وركود لم ولن يكون بالأمر السهل. ففي أمريكا وحدها مئات الآلاف من الشركات الصغيرة والكبيرة تحتاج إعادة فتح، ويتعين على الملايين من العمال المسرحين العثور على أرباب عمل جدد، وعلى المصنّعين إعادة خطوط الإنتاج المتوقفة عن العمل أثناء الوباء. كل هذه التغييرات تستغرق وقتا ليس بالقصير.
إن السرعة في إيجاد الحل لاضطرابات سلسلة التوريد - سيجعلها أكثر مرونة في مواجهة الصدمات المستقبلية وإعادة البناء بشكل أفضل.
فهل استفدنا من أخطائنا وتجارب الآخرين؟
للحديث تتمة ... دمتم بخير
تعليقات
إرسال تعليق